سورة الشعراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الشعراء)


        


{قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)}
اعلم أن فرعون لما ذكر التربية وذكر القتل وقد كانت تربيته له معلومة ظاهرة، لا جرم أن موسى عليه السلام ما أنكرها، ولم يشتغل بالجواب عنها، لأنه تقرر في العقول أن الرسول إلى الغير إذا كان معه معجز وحجة لم يتغير حاله بأن يكون المرسل إليه أنعم عليه أو لم يفعل ذلك، فصار قول فرعون لما قاله غير مؤثر ألبتة، ومثل هذا الكلام الإعراض عنه أولى ولكن أجاب عن القتل بما لا شيء أبلغ منه في الجواب وهو قوله: {فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} والمراد بذلك الذاهلين عن معرفة ما يؤول إليه من القتل لأنه فعل الوكزة على وجه التأديب، ومثل ذلك ربما حسن وإن أدى إلى القتل فبين له أنه فعله على وجه لا يجوز معه أن يؤاخذ به أو يعد منه كافراً أو كافراً لنعمه، فأما قوله: {فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ} فالمراد أني فعلت ذلك الفعل وأنا ذاهل عن كونه مهلكاً وكان مني في حكم السهو، فلم أستحق التخويف الذي يوجب الفرار ومع ذلك فررت منكم عند قولكم: {إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] فبين بذلك أنه لا نعمة له عليه في باب تلك الفعلة، بل بأن يكون مسيئاً فيه أقرب من حيث خوف تخويفاً أوجب الفرار، ثم بين نعمة الله تعالى عليه بعد الفرار، فكأنه قال أسأتم وأحسن الله إلي بأن وهب لي حكماً وجعلني من المرسلين، واختلفوا في الحكم والأقرب أنه غير النبوة لأن المعطوف غير المعطوف عليه، والنبوة مفهومة من قوله: {وَجَعَلَنِى مِنَ المرسلين} فالمراد بالحكم العلم ويدخل في العلم العقل والرأي والعلم بالدين الذي هو التوحيد، وهذا أقرب لأنه لا يجوز أن يبعثه تعالى إلا مع كماله في العقل والرأي والعلم بالتوحيد وقوله: {فَوَهَبَ لِى رَبّى حُكْماً} كالتنصيص على أن ذلك الحكم من خلق الله تعالى، وقالت المعتزلة: المراد منه الألطاف وهو ضعيف جداً لأن الألطاف مفعولة في حق الكل من غير بخس ولا تقصير، فالتخصيص لابد فيه من فائدة، فأما قوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَىَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِى إسراءيل} فهو جواب قوله: {أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] يقال عبدت الرجل وأعبدته إذا اتخذته عبداً، فإن قيل كيف يكون ذلك جوابه ولا تعلق بين الأمرين؟ قلنا بيان التعلق من وجوه:
أحدها: أنه إنما وقع في يده وفي تربيته لأنه قصد تعبيد بني إسرائيل وذبح أبنائهم، فكأنه عليه السلام قال له كنت مستغنياً عن تربيتك لو لم يكن منك ذلك الظلم المتقدم علينا وعلى أسلافنا.
وثانيها: أن هذا الإنعام المتأخر صار معاضاً بذلك الظلم العظيم على أسلافنا وإذا تعارضا تساقطا.
وثالثها: ما قاله الحسن: إنك استعبدتهم وأخذت أموالهم ومنها أنفقت علي فلا نعمة لك بالتربية.
ورابعها: المراد أن الذي تولى تربيتي هم الذين قد استعبدتهم فلا نعمة لك علي لأن التربية كانت من قبل أمي وسائر من هو من قومي ليس لك إلا أنك ما قتلتني، ومثل هذا لا يعد إنعاماً.
وخامسها: أنك كنت تدعي أن بني إسرائيل عبيدك ولا منة للمولى على العبد في أن يطعمه ويعطيه ما يحتاج إليه.
واعلم أن في الآية دلالة على أن كفر الكافر لا يبطل نعمته على من يحسن إليه ولا يبطل منته لأن موسى عليه السلام إنما أبطل ذلك بوجه آخر على ما بينا، واختلف العلماء فقال بعضهم إذا كان كافراً لا يستحق الشكر على نعمه على الناس إنما يستحق الإهانة بكفره، فلو استحق الشكر بإنعامه والشكر لا يوجد إلا مع التعظيم فيلزم كونه مستحقاً للإهانة وللتعظيم معاً، واستحقاق الجمع بين الضدين محال، وقال آخرون لا يبطل الشكر بالكفر وإنما يبطل بالكفر الثواب والمدح الذي يستحقه على الإيمان، والآية تدل على هذا القول الثاني.
المسألة الثانية: قال صاحب الكشاف إنما جمع الضمير في {مّنكُمْ} و{خِفْتُكُمْ} مع إفراده في {ثمنها} و{عَبَّدتَّ} لأن الخوف والفرار لم يكونا منه وحده ولكن منه ومن ملائه المؤتمرين بقتله، بدليل قوله: {إِنَّ الملا يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20] وأما الامتنان فمنه وحده وكذلك التعبيد، فإن قلت: {تِلْكَ} إشارة إلى ماذا و{أَنْ عَبَّدتَّ} ما محلها من الإعراب؟ قلت: (تلك) إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة لا يدرى ما هي إلا بتفسيرها وهي {أَنْ عَبَّدتَّ} فإن {أَنْ عَبَّدتَّ} عطف بيان ونظيره قوله تعالى: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] والمعنى تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنها علي، وقال الزجاج: ويجوز أن يكون (أن) في موضع نصب، والمعنى إنما صارت نعمة علي، لأن عبدت بني إسرائيل أي لو لم تفعل ذلك لكفاني أهلي.


{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آَبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31)}
اعلم أن فرعون لم يقل لموسى {وَمَا رَبُّ العالمين}، إلا وقد دعاه موسى إلى طاعة رب العالمين، يبين ذلك ما تقدم من قوله: {فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبّ العالمين} [الشعراء: 16] فلابد عند دخولهما عليه أنهما قالا ذلك، فعند ذلك قال فرعون: {وَمَا رَبُّ العالمين} ثم هاهنا بحثان:
الأول: أن فرعون يحتمل أن يقال إنه كان عارفاً بالله، ولكنه قال ما قال طلباً للملك والرياسة، وقد ذكر الله تعالى في كتابه ما يدل على أنه كان عارفاً بالله، وهو قوله: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السموات والأرض} [الإسراء: 102] فإذا قرئ بفتح التاء من {عَلِمَتِ} فالمراد أن فرعون علم ذلك، وذلك يدل على أنه كان عارفاً بالله، لكنه كان يستأكل قومه بما يظهره من إلهيته، والقراءة الأخرى برفع التاء من {عَلِمَتِ} فهي تقتضي أن موسى عليه السلام هو الذي عرف ذلك، وأيضاً فإن فرعون إن لم يكن عاقلاً لم يجز من الله تعالى بعثة الرسول إليه، وإن كان عاقلاً فهو يعلم بالضرورة أنه ما كان موجوداً ولا حياً ولا عاقلاً ثم صار كذلك، وبالضرورة يعلم أن كل ما كان كذلك فلابد له من مؤثر، فلابد وأن يتولد له من هذين العلمين علم ثالث بافتقاره في تركيبه وفي حياته وعقله إلى مؤثر موجد، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الدهرية من أن الأفلاك واجبة الوجود في ذواتها ومتحركة لذواتها، وأن حركاتها أسباب لحصول الحوادث في هذا العالم، أو يقال إنه كان من الفلاسفة القائلين بالعلة الموجبة لا بالفاعل المختار، ثم اعتقد أنه بمنزلة الإله لأهل إقليمه من حيث استعبدهم وملك ذماتهم وزمام أمرهم، ويحتمل أن يقال إنه كان على مذهب الحلولية، القائلين بأن ذات الإله يتدرع بجسد إنسان معين، حتى يكون الإله سبحانه لذلك الجسد بمنزلة روح كل إنسان بالنسبة إلى جسده، وبهذه التقديرات كان يسمي نفسه إلهاً.
البحث الثاني: وهو أنه قال لموسى عليه السلام: {وَمَا رَبُّ العالمين}؟ واعلم أن السؤال بما طلب لتعريف حقيقة الشيء، وتعريف حقيقة الشيء إما أن يكون بنفس تلك الحقيقة أو بشيء من أجزائها أو بأمر خارج عنها أو بما يتركب من الداخل والخارج.
أما تعريفها بنفسها فمحال، لأن المعرف معلوم قبل المعرف، فلو عرف الشيء بنفسه لزم أن يكون معلوماً قبل أن يكون معلوماً وهو محال.
وأما تعريفها بالأمور الداخلة فيها فهاهنا في حق واجب الوجود محال، لأن التعريف بالأمور الداخلة لا يمكن إلا إذا كان المعرف مركباً، وواجب الوجود يستحيل أن يكون مركباً، لأن كل مركب فهو محتاج إلى كل واحد من أجزائه، وكل واحد من أجزائه فهو غيره، فكل مركب محتاج إلى غيره، وكل ما احتاج إلى غيره فهو ممكن لذاته، وكل مركب فهو ممكن، فما ليس بممكن يستحيل أن يكون مركباً، فواجب الوجود ليس بمركب، وإذا لم يكن مركباً استحال تعريفه بأجزائه، ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريف ماهية واجب الوجود إلا بلوازمه وآثاره، ثم إن اللوازم قد تكون خفية، وقد تكون جلية، ولا يجوز تعريف الماهية باللوازم الخفية بل لابد من تعريفها باللوازم الجلية، وأظهر آثار ذات واجب الوجود هو هذا العالم المحسوس وهو السموات والأرض وما بينهما فقد ثبت أنه لا جواب ألبتة لقول فرعون {وَمَا رَبُّ العالمين} إلا ما قاله موسى عليه السلام، وهو أنه رب السموات والأرض وما بينهما، فأما قوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} فمعناه: إن كنتم موقنين بإسناد هذه المحسوسات إلى موجود واجب الوجود فاعرفوا أنه لا يمكن تعريفه إلا بما ذكرته لأنكم لما سلمتم انتهاء هذه المحسوسات إلى الواجب لذاته، ثبت أن الواجب لذاته فرد مطلق، وثبت أن الفرد المطلق لا يمكن تعريفه إلا بآثاره، وثبت أن تلك الآثار لابد وأن تكون أظهر آثاره، وأبعدها عن الخفاء وما ذاك إلا السموات والأرض وما بينهما، فإن أيقنتم بذلك لزمكم أن تقطعوا بأنه لا جواب عن ذلك السؤال إلا هذا الجواب، ولما ذكر موسى عليه السلام هذا الجواب الحق قال فرعون لمن حوله ألا تستمعون وإنما ذكر ذلك على سبيل التعجب من جواب موسى، يعني أنا أطلب منه الماهية وخصوصية الحقيقة، وهو يجيبني بالفاعلية والمؤثرية، وتمام الإشكال أن تعريف الماهية بلوازمها لا يفيد الوقوف على نفس تلك الماهية، وذلك لأنا إذا قلنا في الشيء إنه الذي يلزمه اللازم الفلاني، فهذا المذكور، إما أن يكون معروفاً لمجرد كونه أمراً ما يلزمه ذلك اللازم أو لخصوصية تلك الماهية التي عرضت لها هذه الملزومية، والأول محال لأن كونه أمراً يلزمه ذلك اللازم جعلناه كاشفاً فلو كان المكشوف هو هذا القدر لزم كون الشيء معروفاً لنفسه وهو محال، والثاني محال لأن العلم بأنه أمر ما يلزمه اللازم الفلاني لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية الملزومة، لأنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في لوازم متساوية فثبت أن التعريف بالوصف الخارجي لا يفيد معرفة نفس الحقيقة فلم يكن كونه رباً للسموات والأرض وما بينهما جواباً عن قوله: {وَمَا رَبُّ العالمين} فأجاب موسى عليه السلام: بأن {قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} وكأنه عدل عن التعريف بخالقية السماء والأرض إلى التعريف بكونه تعالى خالقاً لنا ولآبائنا، وذلك لأنه لا يمتنع أن يعتقد أحد أن السموات والأرضين واجبة لذواتها فهي غنية عن الخالق والمؤثر، ولكن لا يمكن أن يعتقد العاقل في نفسه وأبيه وأجداده كونهم واجبين لذواتهم، لم أن المشاهدة دلت على أنهم وجدوا بعد العدم ثم عدموا بعد الوجود، وما كان كذلك استحال أن يكون واجباً لذاته، وما لم يكن واجباً لذاته استحال وجوده إلا لمؤثر، فكان التعريف بهذا الأثر أظهر فلهذا عدل موسى عليه السلام من الكلام الأول إليه فقال فرعون: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} يعني المقصود من سؤال ما طلب الماهية وخصوصية الحقيقة والتعريف بهذه الآثار الخارجية لا يفيد ألبتة تلك الخصوصية، فهذا الذي يدعي الرسالة مجنون لا يفهم السؤال فضلاً عن أن يجيب عنه، فقال موسى عليه السلام: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فعدل إلى طريق ثالث أوضح من الثاني، وذلك لأنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار، وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار، والأمر ظاهر في أن هذا التدبير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر وهذا بعينه طريقة إبراهيم عليه السلام مع نمروذ، فإنه استدل أولاً بالإحياء والإماتة وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هاهنا بقوله: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ ءابَائِكُمُ الأولين} فأجابه نمروذ بقوله: {أنا أحيي وأميت} [البقرة: 258] فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِى بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] وهو الذي ذكره موسى عليه السلام هاهنا بقوله: {رَّبُّ المشرق والمغرب}.
وأما قوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فكأنه عليه السلام قال إن كنت من العقلاء عرفت أنه لا جواب عن سؤالك إلا ما ذكرت لأنك طلبت مني تعريف حقيقته بنفس حقيقته، وقد ثبت أنه لا يمكن تعريف حقيقته بنفس حقيقته ولا بأجزاء حقيقته، فلم يبق إلا أن أعرف حقيقته بآثار حقيقته، وأنا قد عرفت حقيقته بآثار حقيقته فقد ثبت أن كل من كان عاقلاً يقطع بأنه لا جواب عن هذا السؤال إلا ما ذكرته.
واعلم أنا قد بينا في سورة الأنعام (18) في تفسير قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أن حقيقة الإله سبحانه من حيث هي هي غير معقولة للبشر، وإذا كان كذلك استحال من موسى عليه السلام أن يذكر ما تعرف به تلك الحقيقة، إلا أن عدم العلم بتلك الخصوصية لا يقدح في صحة الرسالة فكان حاصل كلام موسى عليه السلام أن ادعاء رسالة رب العالمين تتوقف صحته على إثبات أن للعالمين رباً وإلهاً ولا تتوقف على العلم بخصوصية الرب تعالى وماهيته المعينة، فكأن موسى عليه السلام يقيم الدلالة على إثبات القدر المحتاج إليه في صحة دعوى الرسالة، وفرعون يطالبه ببيان الماهية، وموسى عليه السلام كان يعرض عن سؤاله لعلمه بأنه لا تعلق لذلك السؤال نفياً ولا إثباتاً في هذا المطلوب، فهذا تمام القول في هذا البحث والله أعلم، ثم إن موسى عليه السلام لما خشن في آخر الكلام بقوله: {إِنْ كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} فعند ذلك قال فرعون: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِى لاجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} فإنه لما عجز عن الحجاج عدل إلى التخويف، فعند ذلك ذكر موسى عليه السلام كلاماً مجملاً ليعلق قلبه به فيعدل عن وعيده فقال: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَئ مُّبِينٍ}؟ أي هل تستجيز أن تسجنني مع اقتداري على أن آتيك بأمر بين في باب الدلالة على وجود الله تعالى وعلى أني رسوله؟ فعند ذلك قال: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} وهاهنا فروع: الفرع الأول: الآية تدل على أنه تعالى ليس بجسم لأنه لو كان جسماً وله صورة لكان جواب موسى عليه السلام بذكر حقيقته ولكان كلام فرعون لازماً له لعدوله عن الجواب الحق الثاني: الواجب على من يدعو غيره إلى الله تعالى أن لا يجيب عن السفاهة لأن موسى عليه السلام لما قال له فرعون إنه مجنون لم يعدل عن ذكر الدلالة وكذلك لما توعده أن يسجنه الثالث: أنه يجوز للمسؤول أن يعدل في حجته من مثال إلى مثال لإيضاح الكلام ولا يدل ذلك على الانقطاع الرابع: إن قيل: كيف قطع الكلام بما لا تعلق له بالأول وهو قوله: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَئ مُّبِينٍ} والمعجز لا يدل على الله تعالى كدلالة سائر ما تقدم؟ قلنا بل يدل ما أراد أن يظهره من انقلاب العصا حية على الله تعالى وعلى توحيده، وعلى أنه صادق في الرسالة فالذي ختم به كلامه أقوى من كل ما تقدم وأجمع الخامس: فإن قيل كيف قال: {رَبّ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} على التثنية والمرجوع إليه مجموع؟ جوابه أريد ما بين الجهتين، فإن قيل: ذكر السموات والأرض وما بينهما قد استوعب الخلائق كلهم، فما معنى ذكرهم وذكر آبائهم بعد ذلك وذكر المشرق والمغرب؟ جوابه: قد عمم أولاً ثم خصص من العام للبيان أنفسهم وآباءهم لأن أقرب الأشياء من العاقل نفسه ومن ولد منه وما شاهد من انتقاله من وقت ميلاده إلى وقت وفاته من حالة إلى حالة أخرى، ثم خصص المشرق والمغرب لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين وغروبها على تقدير مستقيم في فصول السنة من أظهر الدلائل السادس: فإن قيل لم قال: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} ولم يقل لأسجننك مع أنه أخصر؟ جوابه: لأنه لو قال لأسجننك لا يفيد إلا صيرورته مسجوناً.
أما قوله: {لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} فمعناه أني أجعلك واحداً ممن عرفت حالهم في سجوني، وكان من عادته أن يأخذ من يريد أن يسجنه فيطرحه في بئر عميقة فرداً لا يبصر فيها ولا يسمع فكان ذلك أشد من القتل السابع: الواو في قوله: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ} واو الحال دخلت عليها همزة الاستفهام معناه أتفعل بي ذلك ولو جئتك بشيء مبين أي جائياً بالمعجزة.


{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)}
وفيه مسائل:
المسألة الأولى: قرأ الأعمش: {بِكُلّ ساحر عَلِيمٍ}.
المسألة الثانية: اعلم أن قوله: {أَوْ لَوْ جِئْتُكَ بِشَئ مُّبِينٍ} [الشعراء: 30] يدل على أن الله تعالى قبل أن ألقى العصا عرفه بأنه يصيرها ثعباناً، ولولا ذلك لما قال ما قال: فلما ألقى عصاه ظهر ما وعده الله به فصار ثعباناً مبيناً، والمراد أنه تبين للناظرين أنه ثعبان بحركاته وبسائر العلامات، روي أنه لما انقلبت حية ارتفعت في السماء قدر ميل ثم انحطت مقبلة إلى فرعون وجعلت تقول يا موسى مرني بما شئت، ويقول فرعون يا موسى أسألك بالذي أرسلك إلا أخذتها فعادت عصا فإن قيل كيف قال هاهنا: {ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} وفي آية أخرى: {فَإِذَا هِىَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] وفي آية ثالثة: {كَأَنَّهَا جَانٌّ} [القصص: 31] والجان مائل إلى الصغر والثعبان مائل إلى الكبر؟ جوابه: أما الحية فهي اسم الجنس ثم إنها لكبرها صارت ثعباناً، وشبهها بالجان لخفتها وسرعتها فصح الكلامان، ويحتمل أنه شبهها بالشيطان لقوله تعالى: {والجآن خلقناه مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] ويحتمل أنها كانت أولاً صغيرة كالجان ثم عظمت فصارت ثعباناً، ثم إن موسى عليه السلام لما أتى بهذه الآية قال له فرعون هل غيرها؟ قال نعم فأراه يده ثم أدخلها جيبه ثم أخرجها فإذا هي بيضاء يضيء الوادي من شدة بياضها من غير برص لها شعاع كشعاع الشمس، فعند هذا أراد فرعون تعمية هذه الحجة على قومه فذكر فيها أموراً ثلاثة: أحدها: قوله: {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} وذلك لأن الزمان كان زمان السحرة وكان عند كثير منهم أن الساحر قد يجوز أن ينتهي بسحره إلى هذا الحد فلهذا روج عليهم هذا القول.
وثانيها: قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} وهذا يجري مجرى التنفير عنه لئلا يقبلوا قوله، والمعنى يريد أن يخرجكم من أرضكم بما يلقيه بينكم من العداوات فيفرق جمعكم، ومعلوم أن مفارقة الوطن أصعب الأمور فنفرهم عنه بذلك، وهذا نهاية ما يفعله المبطل في التنفير عن المحق.
وثالثها: قوله لهم: {فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} أي فما رأيكم فيه وما الذي أعمله، يظهر من نفسه أني متبع لرأيكم ومنقاد لقولكم، ومثل هذا الكلام يوجب جذب القلوب وانصرافها عن العدو فعند هذه الكلمات اتفقوا على جواب واحد وهو قوله: {أَرْجِهْ} قرئ (أرجئه) و(أرجه) بالهمز والتخفيف، وهما لغتان يقال: أرجأته وأرجيته إذا أخرته، والمعنى أخره ومناظرته لوقت اجتماع السحرة، وقيل احبسه وذلك محتمل، لأنك إذا حبست الرجل عن حاجته فقد أخرته.
روي أن فرعون أراد قتله ولم يكن يصل إليه، فقالوا له لا تفعل، فإنك إن قتلته أدخلت على الناس في أمره شبهة، ولكن أرجئه وأخاه إلى أن تحشر السحرة ليقاوموه فلا يثبت له عليك حجة، ثم أشاروا عليه بإنفاذ حاشرين يجمعون السحرة، ظناً منهم بأنهم إذا كثروا غلبوه وكشفوا حاله وعارضوا قوله: {إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ} بقولهم: {بِكُلّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فجاءوا بكلمة الإحاطة وبصيغة المبالغة ليطيبوا قلبه وليسكنوا بعض قلقه، قال صاحب الكشاف فإن قلت: قوله تعالى: {قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ} ما العامل في (حوله)؟ قلت: هو منصوب نصبين نصب في اللفظ ونصب في المحل والعامل في النصب اللفظي ما يقدر في الظرف، والعامل في النصب المحلي هو النصب على الحال.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8